في عصر الديمقراطية الزاهي في اليونان القديمة، على ماتقول الروايات التاريخية والأدبيات المسرحية، لعبت الساحة أو الآغورا دوراً رئيساً في التعبير عن إرادة المواطنين، أو الرجال الأحرار منهم على أقل تقدير. فهم كانوا يجتمعون فيها لمناقشة مايستجد من أمورهم العامة واتخاذ قرار جماعي بشأنها. ويقفون كتفاً لكتف، عراةً أو شبه عراة، لاتميزهم ملابس أو شارات، ويتناقشون ويتخالفون أو يتفقون، ثم يتخذون القرارات الملزمة لكل سكان المدينة ويصوتون عليها بالأغلبية. هذه الصورة، المتخيلة قليلاً والتي جمّلتها قرون من الكتابات الأوروبية المُعجبة، أصبحت رمزاً للديمقراطية على الطريقة الغربية. وتلازمت الآغورا مع التعبير عن الديمقراطية، لا من حيث أنها ساحة محاطة بأروقة أسواق ومبان عامة أخرى فقط، ولكن من حيث أنها ساحة تمتلئ بالرجال الأحرار المنخرطين في سياسة مدينتهم والفاعلين في تنفيذها. وصار هذا التلازم علامة على تفوق حضاري، بدأ بترويجه الأغريق القدامى حين أعتبروا أنفسهم المتحضرين الحقيقيين الوحيدين بسبب من حرية مواطنيهم في مدنهم المستقلة، في حين أنهم اعتبروا غيرهم من الحضارات المعاصرة، كالحضارتين المصرية والفارسية، حضارات بربرية لأن مواطنيها عبيد لملوكها لا حرية لهم ولا ساحات تجمعهم.
واستمر هذا التمايز في الأدبيات الأوروبية حتى اليوم. وحدها الثقافات الغربية أنتجت منظومات ديمقراطية حقة في مدن إيطاليا وألمانيا وانكلترة بدءاً من عصري النهضة والأنوار وفقاً لماكس ڤيبر. واستمرت في احتكار انتاجها حتى العصر الحديث على رأي كل علماء الاجتماع السياسي. وبقيت الساحة العامة رمزاً لهذا التمايز. فالمدن الأوربية بمجملها تزهو بساحاتها العامة. وهي تزنرها عادةً بكاتدرائياتها وفنادق تجارها ومجالس حكمها المدني وتعتبرها مركزاً للمدينة وللحياة المدنية فيها. ففيها يجتمع المواطنون وفيها يتاجرون، وفيها يعبرون عن رأيهم الجمعي، وفيها يحتفلون، وفيها يحزنون. على حين غابت هذه التفصيلة المدنية، على ماعرفه علماء أوروبا في القرون الماضية، عن مدن الحضارات الأخرى، وبشكل خاص مدن الحضارة الإسلامية، رمز الآخر بالنسبة للثقافات الغربية. فمدننا التقليدية تفضل الشوارع الملتوية والضيقة والمزدحمة، خصوصاً في مناطق الأسواق. وأناسها يجدون في هذه الامتدادات الخطية المنسابة بين المعمار، والمحمية من الشمس والهواء، ملاذاً آمناً ومريحاً لنشاطاتهم العامة في مناخنا الحار والجاف والذي تلسع شمس نهاره كل من يتجرأ على الوقوف في العراء لأكثر من بضع دقائق. وعليه فنحن قلما نجد في مدننا التاريخية ساحات عامة بالمعنى المتعارف عليه غربياً. وإذا حدث ووجدنا ساحات مصممة في مدننا قبل الفترة الحديثة فهي بعمومها ساحات للحكام تطل عليها قصورهم، وتكون في أغلب الأحوال ميادين لهم ولفرسانهم لكي يمارسوا فيها تمارين فروسيتهم أو لكي يتبختروا على خيولهم المطهمة استعراضاً لبأسهم وسؤددهم أمام العامة والخاصة، كما في ميدان الرميلة في القاهرة وموقع معرض دمشق الدولي في دمشق الذي كان اسمه الميدان الأخضر، وبشكل خاص ميدان-إي شاه في إصفهان وميدان السلطان أحمد في استنبول. هذه الساحات كانت بحقيقة الأمر ساحات السلطة في مدننا منذ أن أصبحت هذه السلطة سلطة فارسة ومحاربة بالدرجة الأولى في القرن الحادي عشر وحتى اضمحلال سيطرتها في القرن التاسع عشر وهزيمتها وخروجها من التاريخ مع نهاية ذلك القرن.
ربما كان هناك سبب آخر أيضاً لغياب الساحات العامة في التاريخ المدني الإسلامي، سبب نابع من ترتيب المساجد وشمول دورها الاجتماعي لما هو أكثر من الصلاة والتعبد. فالمساجد مزودة عادةً بباحاتها المفتوحة خلف بيوت صلاتها المغطاة والتي يستخدمها المصلون للصلاة إذا فاضت بهم بيوت الصلاة أو يجلسون فيها بين الصلوات يقرأون ويتحدثون وأحياناً يتدارسون أو يتناقشون. هذه الباحات، والمساجد نفسها، خاصة الجامعة منها، لعبت بعضاً من أدوار الساحات العامة من حيث أنها كانت أماكن التجمع في المدن الإسلامية. ففيها تقام الصلوات وتخطب خطب الجمعة ويؤبن الموتى وتعقد المحاكم وتدرس الدروس وغيرها من النشاطات الاجتماعية العامة. وفيها، في عقود الإسلام الأولى على الأقل، حصل الحاكم على ولاء محكوميه، وبشكل خاص الذكور الأحرار والبالغين منهم كما في المدينة الأغريقية، عبر تردادهم للدعاء له خلال خطبة الجمعة. وأحياناً ثاروا عليه برفضهم الدعاء له، مما أدى إلى مواجهات دامية كما في القصص المتواردة عن الحجاج بن يوسف الثقفي وتعامله مع أهل العراق. أي أن الجامع لعب دوراً سياسياً في البداية، مما ربما قلل من أهمية الآغورات التي كانت موجودة في المدن ذات الأصول الكلاسيكية التي افتتحها المسلمون في سورية وفلسطين ومصر وشمال أفريقيا والأناضول، كدمشق والاسكندرية والقدس وأنطاكية، وساهم على الأغلب في اضمحلالها واختفائها من تلك المدن خلال قرنين أو ثلاثة.
ولكن الجامع، على مالاحظ كل كاتب سلفي معاصر يحن إلى عصر الإسلام الذهبي، فقد دوره السياسي بسرعة بعدما تحولت الدولة الإسلامية إلى خلافة وراثية، وبعدما انعزل الحاكم عن الرعية في قصوره وبين بطانته وحريمه. وأصبح إجهار الولاء للحاكم في خطبة الجمعة تقليداً صوتياً لاوزن سياسي فعلي له، يردده المصلون خلف الخطيب، الذي هو في الحقيقة موظف لدى الحاكم لااستقلالية له. ومازال الوضع كذلك حتى اليوم. ثم فقد الجامع دوره التعليمي أيضاً عندما ظهرت مؤسسة المدرسة المتخصصة في القرن العاشر وانتشرت في أرجاء العالم الإسلامي في القرنين الحادي عشر والثاني عشر لتلبية حاجة السلطنات الإسلامية عسكرية التوجه، كالسلطنة السلجوقية وماتلاها من الدول، لفقهاء يقومون بوظائفها الدينية والإدارية من دون أن يمثلوا أي تهديد فكري أو معنوي لسلطتها. وتجاوب فقهاء السلطان مع هذا التطور الذي حولهم من علماء متبرعين بعلمهم لوجه الله يجلسون في الجوامع لإعطاء دروسهم إلى موظفين متكسبين يدرسون في مدارس السلطة ويتمتعون بعطائها المادي ودعمها الوظيفي. ثم تدهورت مكانة الجامع أكثر، عندما وضعت الدولة الحديثة في أغلبية البلاد الإسلامية ذات الغالبية السنية يدها على الأوقاف وحولت الجوامع نفسها وسدنتها وخطبائها ومؤذنيها إلى موظفين لااستقلال مالي لهم، مما استتبع بالتالي لفقدانهم أهم مقومات حرية التعبير.
وهكذا دخلت مدننا عصر الحداثة في نهاية القرن التاسع عشر من دون فراغات حرية سياسية عامة فيها. فلا ساحات السلطة على قلتها أمنت لها هذا المناخ، ولا الجوامع على كثرتها استعادت بعضاً من دورها المفقود في الحياة العامة. ومع أن مخططي مدننا الحديثة قد لحظوا إقامة ساحات عامة صغيرة وكبيرة جديدة في مدننا المتوسعة، إلا أن الثقافة السياسية والاجتماعية العامة التي ترافقت وعمران الساحات واستخدامها على مدى قرون من التطور العمراني في أوروبا لم تجد لنفسها متسعاً من الوقت لكي تمد جذوراً في ثقافاتنا العامة الحديثة الناشئة في ظل الاستعمار في القرنين التاسع عشر والعشرين. ومما زاد الطين بلة أن بلادنا العربية بغالبيتها لم تجد لنفسها متسعاً من الوقت لإنشاء مجتمعات مدنية متينة وراسخة بعد نيلها استقلالها وتأسيسها لحكوماتها الوطنية في منتصف القرن العشرين. فهي، على الغالب والأعم، سرعان ماوقعت ضحية انقلابات عسكرية، جاءت كنتيجة منطقية لزرع إسرائيل الكولونيالي في قلب العالم العربي، وجلبت للحكم مجموعات من الضباط أنصاف-المتعلمين والأجلاف وقليلي المراس بالسياسة الذين قدموا أنفسهم قبل كل شيء كمشروع لتحرير فلسطين ومقارعة مخططات السيطرة على أرضنا وثرواتنا من قبل الاستعمار بشكليه الجديد والقديم. ولاخلاف على أن الجو العام كان مهيأً لتقبل هذه الادعاءات، فهزيمة الجيوش العربية الناشئة في فلسطين عام ١٩٤٨ وعجزها عن حماية إخوتنا الفلسطينيين في مدنهم وقراهم قد أصابت الرأي العام العربي في الصميم من كبريائه. ومع أن الأنظمة العسكرية التي تمادت في سيطرتها على مقدرات الأمور في بلادها لم تنجح في إفشال مخططات الاستعمار أو في تحرير فلسطين، بل سرعان ماخسرت مابقي منها، ومابقي من الكبرياء العربية نفسها، في حرب ١٩٦٧، إلا أنها لم تغير خطابها التحرري الفاشل وحاولت جاهدة استخدامه لتغطية فشلها على كل الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والحقوقية، وفوق هذا وذاك، فشلها المزري في صياغة دولة المواطنة الحديثة في بلادها. بل إن هذه الأنظمة ذات الجذور العسكرية لم تتوانى عن استخدام خطاب التحرر نفسه حتى بعد تخليها الفعلي عن القضية الفلسطينية واختيارها السلام "كخيار استراتيجي"، وإضافة خطاب الحاكم المفرد الملهم إليه، كغطاء لبطشها وتحولها إلى عصابات حاكمة تستنزف اقتصاد بلادها وتقتل فيها كل معالم المواطنة والحقوق المدنية.
وعلى هذا فقد سُحرنا، وسُحر العالم نفسه، بثورات الربيع العربي في عام ٢٠١١. فبعد أن كان المفكرون والمحللون السياسيون قد فقدوا أي أمل في تحول ديمقراطي في البلاد العربي يواكب ماحصل في جنوب شرق آسيا في السبعينيات وأمريكا اللاتينية في الثمانينيات وشرق أوروبا في التسعينيات من القرن العشرين، هبت الشعوب العربية مطالبة بحريتها في بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين. لم تكن الهبة سهلة بعد عقود من البطش والتسلط والإفقار والتدخل الأجنبي والاسرائيلي، بل إن مخاضها كان صعباً ومازال، ونتائجها مازالت غير واضحة المعالم، وربما تنقلب على أهلها ومؤيديها. ولكن السد انهار والقوى الشعبية التي كبحتها الأنظمة المتسلطة قد اندفعت للتعبير عن نفسها وللمطالبة بدور لها في السياسة، تلك اللعبة الخطرة التي حرمت منها لعقود. واتخذ هذا الاندفاع وهذا التعبير مناح شتى ولكنه، على الغالب، وجد موئله الأول في الساحات المنسية حيث يمكن للناس التلاقي والتجمع والاستقواء بكثرتهم وعددهم في وجه البطش وفي وجه القادم والمجهول. عادت الساحات، لوهلة قصيرة ولكنها منيرة، لتكون مركز التعبير الديمقراطي الحقيقي وإن كان هذا التعبير عفوياً وبدون هياكل قانونية وسياسية ومؤسساتية تحميه كما كانت الحال في أثينا القديمة أو في المدن الأوروبية القروسطية. وربما لهذا السبب كانت ساحات التحرير والتغيير محط أنظار الصحافة والمعلقين، فهي تحمل في فراغاتها وتواصلها مع المدينة حولها ذكرى من ساحات أخرى نشأت وتطورت في ظل قواعد ديمقراطية ولعبت دوراً في ترسيخها ومأسستها وحمايتها على المدى الطويل. وهي أيضاً بحكم تشكلها الثابت نسبياً في فراغ المدينة تضفي على حركة الاحتجاج نفسها قالباً يمكن توصيفه للقراء والمشاهدين، قالب يعوض بصرياً على الأقل عن غياب الأطر الناظمة الأخرى لحركات الاحتجاج بفعل التسلط السياسي والعسكري والمخابراتي المتطاول التي عانت بلادنا منه، مثل التنظيم السياسي أو الأهلي والقواعد المدنية المرافقة له.
وهكذا أصبحت ساحاتنا منازل ثوراتنا ومعيار مأساتها في آن. فهي وإن كانت تسمح للثوار بالتجمع والتعاضد والتوحد حول هدف واحد والمطالبة به بصوت عال يجمع في طياته غضب السنين وحرمان الملايين من حقهم بالتعبير، لكنها في نهاية المطاف لاتؤمن لهم سلامتهم ولاتحميهم من بطش الحاكم أو طغيان الأكثرية أو الأقلية الغوغائية لأنها وبكل بساطة محرومة من صفة "العامة" في اسمها الرسمي "الساحات العامة." وهي أيضاً وإن كانت جزءاً من المدينة الحديثة التي يفترض فيها أن تكون مدينة المواطنة ومدينة الحقوق المدنية، إلا أنها وليدة مخططات عمرانية وتطورات سياسية واجتماعية أبعد ماتكون عن مفهوم المواطنة والحريات المدنية. بل إنها تحمل في جيناتها ذكريات اضطهاد تاريخي امتد منذ الخلافة العباسية وحتى الاستعمار الأوروپي، وذكريات اضطهاد أقبح منه عانت منه شعوبنا في الثلاثين سنة الأخيرة على أيدي أنظمة دكتاتورية حاقدة وفاشلة. فالأنظمة العربية الصائرة إلي زوال لم تحترم يوماً عمومية الفراغ العام، ساحات كانت أم غيرها من المرافق المدنية. وهي قد استباحته لزعمائها الملهمين يجمعون فيه "قطعان" الشعب أنى شاؤوا لكي يصفقوا ويهتفوا لهم بمناسبة ومن دون مناسبة، واستباحته لأجهزة مخابراتها لكي تمارس فيه شتى أنواع الرقابة والضغط والتخويف. وتسللت العقلية نفسها إلى الناس فأصبحوا أكثر "خصوصية" (أو بالأحرى أكثر "تقية") في ممارستهم لحياتهم مما كان عليه أجدادهم، واخترعوا لأنفسهم ألف حجاب وحجاب، في تصرفاتهم ومعاييرهم وملبسهم ومنطقهم، تستلهم في شكلها ومفعولها أشكال القمع السياسي المفروض عليهم وتخصصها حتى غدت ساحاتنا وأسواقنا وأماكن تجمعنا فراغات خصوصية كبيرة يتجاور فيها المواطنون من غير أن يتلاقوا بالمعنى السياسي والاجتماعي للكلمة. وفقد المواطن حس الانتماء الحقيقي، انتماء الاختيار، الانتماء الحر والواعي، وصار يتقي الاحتكاك بمواطنيه لأنه لم يعد يعرف ما إذا كان تعامله معهم من ضمن المسموح به أم خارج عنه.
ساحاتنا، مثل ثوراتنا، مازالت بحاجة إلى "تعميمها" بشكل حقيقي لكي تصبح فراغات تعبير للعموم تشمل كل طبقات وأنواع وتوجهات الناس: رجالاً ونساءاً، فقراء وأغنياء، متعلمين وأنصاف متعلمين أو أميين، متدينين وعلمانيين وملحدين، مسيسين وأصحاب قضايا اجتماعية وثقافية، وشباباً وكهولاً. وهي مازالت أيضاً بحاجة إلى تحريرها بالمعني الحقوقي والدستوري للكلمة لكي تحترمهم كلهم بالتساوي وتفسح لهم كلهم مجالات للتعبير من دون خوف أو اتقاء لقوى غاشمة أكبر وأكثر صراخاً وإلحاحاً. وهي لن تصبح حقاً ساحاتنا إلا إذا صارت مسيجة بالحقوق والحريات العامة التي تضمنها دساتير مدنية وقوانين تحترم خصوصيات الفرد وحقوق المجموع كما يجب أن تكون عليه وكما أوحى به لوهلة عنفوان الثورات واندفاع الشباب وشعاراتهم وأحلامهم قبل أن تسرقها الحركات السياسية والفكرية والاجتماعية الخانقة التي تنتمي بمجملها للأنظمة البائدة أو التي كان يجب لها أن تبيد.